هل سفر العدد يُظهر الله وكأنه يتخلى عن الرحمة؟ نظرة لاهوتية أرثوذكسية

ملخص تنفيذي

هل سفر العدد يُظهر الله وكأنه يتخلى عن الرحمة؟ سؤال يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الله وصفاته. يسعى هذا البحث اللاهوتي الأرثوذكسي إلى استكشاف هذا التحدي من خلال فحص دقيق لنصوص سفر العدد، مع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والجغرافي والثقافي. سنقوم بتحليل الأحداث، مثل تذمر الشعب وعقوبات الله، في ضوء لاهوت الرحمة الإلهية كما تجسدت في العهد القديم والعهد الجديد. كما سنستعرض أقوال آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأوائل لتوضيح كيف فهموا هذه النصوص. سنبين أن ما يبدو ظاهريًا قسوة أو تخليًا عن الرحمة، هو في الواقع تعبير عن عدل الله ورحمته التي تسعى إلى تقويم شعبه وإعادته إلى طريق الخلاص. في النهاية، نهدف إلى تقديم فهم متوازن يبرز رحمة الله التي لا تنتهي، حتى في أصعب الظروف.

مقدمة:

يُعد سفر العدد من أسفار الكتاب المقدس التي تثير جدلاً واسعًا، خاصةً فيما يتعلق بصورة الله. فهل حقًا يُظهر سفر العدد يُظهر الله وكأنه يتخلى عن الرحمة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال تحليل دقيق ومن منظور لاهوتي أرثوذكسي.

لماذا يبدو الله قاسيًا في سفر العدد؟

غالبًا ما يصور سفر العدد الله على أنه سريع الغضب، ومُنزِّل العقاب على شعبه بسبب تذمرهم وعصيانهم. من الأمثلة البارزة على ذلك:

  • تذمر الشعب في البرية: مرارًا وتكرارًا، تذمر بنو إسرائيل على موسى والله بسبب صعوبات الرحلة، ونقص الطعام والماء (العدد 11، 14، 21).
  • عقاب الله: استجاب الله لتذمرهم بإنزال الأوبئة والحرائق، وحتى منع الجيل بأكمله من دخول أرض الميعاد (العدد 14).
  • قصة قورح وجماعته: تحدي قورح لموسى وهارون أدى إلى هلاك قورح و250 من أتباعه (العدد 16).

هذه الأحداث وغيرها تجعل البعض يتساءل: أين رحمة الله؟

عدل الله ورحمته: وجهان لعملة واحدة

من الضروري فهم أن عدل الله ورحمته ليسا صفتين منفصلتين أو متعارضتين، بل هما وجهان لعملة واحدة. فالله عادل، ولا يمكنه أن يتجاهل الخطية والإثم. ولكنه أيضًا رحيم، ويتوق إلى خلاص جميع البشر.

آيات من الكتاب المقدس تدعم هذا المفهوم:

  • المزمور 85: 10: “الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ تَلَاقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلَامُ تَلَاثَمَا.” (Smith & Van Dyke)
  • رسالة رومية 3: 25-26: “الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ.” (Smith & Van Dyke)

يوضح هذان النصان أن عدل الله لا يتنافى مع رحمته، بل هما ضروريان لتحقيق الخلاص.

أقوال آباء الكنيسة:

يشرح القديس أثناسيوس الرسولي هذا المفهوم بوضوح:

“Δίκαιος μὲν γὰρ ὢν ὁ Θεὸς οὐκ ἂν παρέβλεψεν εἰς τὴν ἀδικίαν, ἀγαθὸς δὲ ὢν οὐκ ἂν ἀπέστρεψε τὸ γένος τῶν ἀνθρώπων ἀπὸ τῆς φθορᾶς.”

“لأن الله إذ هو عادل، ما كان ليغض الطرف عن الظلم، وإذ هو صالح، ما كان ليحول وجهه عن جنس البشر من الفساد.” (De Incarnatione, 7)

“For God being righteous would not have overlooked injustice, and being good, would not have turned away from the corruption of mankind.”

الغضب الإلهي: تعبير عن المحبة الأبوية

قد يبدو الغضب الإلهي في سفر العدد قاسيًا، ولكنه في الواقع تعبير عن المحبة الأبوية. فالله يؤدب شعبه لكي يعودوا إليه، ولكي يتعلموا الطاعة والتقوى. إن العقاب الإلهي ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أسمى، وهو خلاص الشعب.

أمثلة من سفر الأمثال:

  • أمثال 3: 11-12: “يَا ابْنِي، لَا تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلَا تَكْرَهْ تَوْبِيخَهُ. لِأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، كَأَبٍ بِابْنٍ يُسَرُّ بِهِ.” (Smith & Van Dyke)

هذا النص يوضح أن التأديب هو علامة على محبة الله الأبوية.

السياق التاريخي والجغرافي:

يجب أن نتذكر أن بني إسرائيل كانوا في حالة ارتحال دائم في البرية، وهي بيئة قاسية وخطيرة. كان التذمر والعصيان يعرضان حياتهم للخطر، ويعرقلان خطة الله لخلاصهم. لذلك، كان التأديب ضروريًا للحفاظ على النظام والانضباط.

التوبة والمغفرة: جوهر الرحمة الإلهية

على الرغم من قسوة العقوبات في سفر العدد، إلا أن هناك دائمًا فرصة للتوبة والمغفرة. فالله يستجيب لصلوات التوبة، ويغفر الخطايا، ويعيد شعبه إلى حضنه. من الأمثلة على ذلك:

  • شفاء الشعب من لدغات الحيات النارية: عندما اعترف الشعب بخطيتهم، أمر الله موسى بصنع حية نحاسية ورفعها على راية، فكل من نظر إليها نجا (العدد 21).
  • استجابة الله لصلوات موسى من أجل الشعب: مرارًا وتكرارًا، استجاب الله لصلوات موسى وتخلى عن إنزال العقاب بالشعب (العدد 14).

هذه الأمثلة تظهر أن الرحمة الإلهية حاضرة دائمًا، حتى في أوقات الغضب.

السيد المسيح: تجسيد الرحمة الإلهية

نجد أسمى تعبير عن الرحمة الإلهية في شخص يسوع المسيح. لقد تجسد الله ليحمل خطايا العالم، ويموت من أجلنا، ويمنحنا الحياة الأبدية. إن المسيح هو الرحمة الإلهية المتجسدة.

آيات من العهد الجديد:

  • إنجيل لوقا 15: 11-32 (مثل الابن الضال): يوضح هذا المثل محبة الله ورحمته اللامحدودة للخاطئ التائب.
  • رسالة تيطس 3: 5: “لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (Smith & Van Dyke)

أسئلة وأجوبة ❓

  • س: لماذا يبدو الله غاضبًا جدًا في سفر العدد؟

    ج: الغضب الإلهي في سفر العدد ليس تعبيرًا عن كراهية، بل هو تعبير عن المحبة الأبوية التي تسعى إلى تقويم شعبه وإعادته إلى طريق الخلاص. إنه رد فعل على العصيان والتذمر الذي يعرض حياة الشعب للخطر ويعرقل خطة الله.

  • س: هل العقوبات في سفر العدد مبالغ فيها؟

    ج: يجب أن نفهم أن العقوبات في سفر العدد كانت ضرورية للحفاظ على النظام والانضباط في بيئة قاسية وخطيرة مثل البرية. كانت هذه العقوبات بمثابة تحذير للشعب من مغبة العصيان، وكانت تهدف إلى تقويمهم وإعادتهم إلى الله.

  • س: كيف يمكننا أن نفهم رحمة الله في ضوء الأحداث المأساوية في سفر العدد؟

    ج: على الرغم من قسوة العقوبات، إلا أن هناك دائمًا فرصة للتوبة والمغفرة. فالله يستجيب لصلوات التوبة، ويغفر الخطايا، ويعيد شعبه إلى حضنه. نجد أسمى تعبير عن الرحمة الإلهية في شخص يسوع المسيح، الذي تجسد ليحمل خطايا العالم ويموت من أجلنا.

  • س: ما هي الدروس الروحية التي يمكننا أن نتعلمها من سفر العدد؟

    ج: يمكننا أن نتعلم من سفر العدد أهمية الطاعة والتقوى، وخطورة التذمر والعصيان. كما يمكننا أن نتعلم أن الله رحيم ومحب، وأنه دائمًا مستعد أن يغفر لنا إذا تبنا وعدنا إليه.

الخلاصة

في الختام، الإجابة على سؤال: هل سفر العدد يُظهر الله وكأنه يتخلى عن الرحمة؟ هي لا. فمن خلال فهمنا العميق للسياق التاريخي واللاهوتي، ندرك أن ما يبدو ظاهريًا قسوة، هو في الواقع تعبير عن عدل الله ورحمته التي تسعى إلى تقويم شعبه. الغضب الإلهي ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أسمى، وهو خلاص الشعب. كما أن التوبة والمغفرة هما جوهر الرحمة الإلهية، والسيد المسيح هو التجسيد الكامل لهذه الرحمة. يجب علينا أن نتعلم من سفر العدد أهمية الطاعة والتقوى، وخطورة التذمر والعصيان، وأن نثق في رحمة الله التي لا تنتهي.

Tags

سفر العدد, رحمة الله, عدل الله, لاهوت أرثوذكسي, آباء الكنيسة, توبة, مغفرة, الكتاب المقدس, العهد القديم, المسيح

Meta Description

هل سفر العدد يُظهر الله وكأنه يتخلى عن الرحمة؟ بحث لاهوتي أرثوذكسي يستكشف طبيعة الله في سفر العدد، ويوضح العلاقة بين عدله ورحمته، وكيف تتجلى الرحمة الإلهية في المسيح.

من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *