هل القول بأن “الله صنع الإنسان غير مائت” يتعارض مع سفر التكوين؟ نظرة لاهوتية أرثوذكسية

مقدمة: هل تتعارض فكرة عدم فناء الإنسان مع خلقته من التراب؟

يثير سؤال: هل القول بأن “الله صنع الإنسان غير مائت” (حك 2: 23) يتعارض مع سفر التكوين الذي يذكر أن الإنسان من تراب وإلى تراب يعود؟ جدلاً هامًا يتطلب فهمًا لاهوتيًا عميقًا. هذا المقال يتناول هذه الإشكالية من منظور أرثوذكسي قبطي، مستندًا إلى الكتاب المقدس بعهديه، أقوال الآباء، والسياق التاريخي والروحي للنصوص. سنبين كيف أن فكرة عدم فناء الإنسان لا تتعارض مع طبيعته الأرضية، بل تكملها، وتشير إلى دعوته الأصلية ومصيره الأبدي في المسيح يسوع.

خلاصة تنفيذية: الإنسان بين الفناء وعدم الفناء

يتناول هذا المقال التساؤل الهام حول مدى تعارض القول بأن “الله صنع الإنسان غير مائت” (حك 2: 23) مع ما جاء في سفر التكوين من أن الإنسان مخلوق من تراب وإلى تراب يعود. من خلال تحليل لاهوتي عميق، مستند إلى الكتاب المقدس بعهديه، وأقوال آباء الكنيسة الأرثوذكسية القبطية، يوضح المقال أن هذا التعارض ظاهري فقط. فالإنسان خُلق بطبيعة مزدوجة: جسد مادي فانٍ وروح خالدة. دعوة الإنسان الأصلية كانت للحياة الأبدية في شركة مع الله، إلا أن الخطية أدخلت الفساد والموت. ومع ذلك، فمن خلال المسيح يسوع، تم استعادة هذه الدعوة، وأصبح الفداء والقيامة ممكنين، مما يؤكد أن الله خلق الإنسان لعدم الفناء، وأن الموت هو نتيجة للخطية وليس جزءًا أصيلاً من طبيعة الإنسان. سنستعرض أقوال الآباء ونحلل النصوص الكتابية لفهم هذه الحقيقة اللاهوتية بعمق.

سفر التكوين: التراب والنفس

يذكر سفر التكوين (تك 2: 7): “وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً” (Smith & Van Dyke). هذا النص يؤكد أن الإنسان مكون من عنصرين: التراب (الجسد) ونسمة الحياة (الروح). الجسد مأخوذ من الأرض وإليها يعود، كما جاء في (تك 3: 19): “بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ”.

لكن، هل يعني هذا أن الإنسان كله فانٍ؟ الجواب هو لا. فالنفس، أو الروح، هي نفخة من الله، وهي غير مادية وغير قابلة للفناء. هذا ما يؤكده سفر الجامعة (جا 12: 7): “فَيَرْجِعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجِعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا”.

سفر الحكمة: الله خلق الإنسان لعدم الفناء

يقول سفر الحكمة (حك 2: 23): “لأَنَّ اللهَ خَلَقَ الإِنْسَانَ لِلْخُلُودِ، وَصَنَعَهُ صُورَةَ ذَاتِ جَوْهَرِهِ” (Smith & Van Dyke). هذا النص يؤكد بشكل قاطع أن قصد الله من خلق الإنسان هو الخلود وعدم الفناء. هذا لا يعني أن الجسد غير قابل للموت، بل يعني أن الإنسان في جوهره الروحي مُعد للحياة الأبدية.

كيف نفهم هذا في ضوء سفر التكوين؟ يجب أن نفهم أن الموت لم يكن جزءًا أصيلاً من خطة الله للإنسان. الموت دخل إلى العالم نتيجة للخطية، كما يقول القديس بولس الرسول (رو 5: 12): “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ”.

نظرة الآباء: الخلود المفقود والمستعاد

تؤكد تعاليم آباء الكنيسة الأرثوذكسية على أن الإنسان خُلق لعدم الفناء، وأن الخطية أدت إلى فقدان هذا الخلود، ولكن المسيح يسوع أعاده لنا بالفداء.

  • القديس أثناسيوس الرسولي: يؤكد على أن الله خلق الإنسان على صورته ليكون خالدًا، ولكن الخطية أدت إلى فساد الطبيعة البشرية.
    Original Greek: “Θεὸς γὰρ τὸν ἄνθρωπον κατ’ εἰκόνα ἰδίαν ἐποίησεν, τουτέστι λόγον ἔχοντα, ἵνα μιμούμενος τὴν αὐτοῦ ἀρχήν, μένῃ εἰς ἀφθαρσίαν.”
    English Translation: “For God made man in His own image, that is, possessed of reason, so that by imitating His own eternity, he might remain in incorruption.” (Athanasius, De Incarnatione, 3)
    Arabic Translation: “لأن الله خلق الإنسان على صورته الخاصة، أي عاقلاً، لكي بتقليد أزليته، يبقى في عدم فساد.”
  • القديس إيريناوس: يوضح أن المسيح جاء ليجدد الإنسان ويعيده إلى صورته الأصلية، أي إلى الخلود.
    Original Greek: “ἵνα ὁ ἄνθρωπος τελειωθεὶς γένηται ὡς ὁ θεὸς.”
    English Translation: “That man, having been perfected, might become as God.” (Irenaeus, Against Heresies, Book V, Preface)
    Arabic Translation: “لكي يصير الإنسان كاملاً كالله.”

القيامة والحياة الأبدية: تحقيق الوعد بالخلود ✨

تؤكد المسيحية الأرثوذكسية على أن القيامة هي تحقيق الوعد بالخلود. فالمسيح قام من الأموات، وبقيامته فتح لنا طريق القيامة والحياة الأبدية. هذا ما يؤكده القديس بولس الرسول (1 كو 15: 22): “لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ”.

القيامة ليست مجرد إحياء للجسد، بل هي تحويله إلى جسد ممجد وغير قابل للموت. هذا الجسد الممجد هو الذي سيشارك في الحياة الأبدية في ملكوت الله. وهكذا، يتحقق وعد الله بالإنسان الذي خُلق لعدم الفناء.

تطبيقات روحية لحياتنا اليومية 🙏

  • تذكر دائمًا أنك مخلوق على صورة الله: هذا يمنحك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
  • اسعَ إلى النمو الروحي: ابحث عن الله في الصلاة، الكتاب المقدس، والأسرار المقدسة.
  • لا تخف من الموت: تذكر أن الموت هو مجرد انتقال إلى حياة أفضل في حضرة الله.
  • عِش حياة القداسة: تجنب الخطية واسعَ إلى فعل الخير.
  • شارك في خدمة الآخرين: أظهر محبة الله للآخرين من خلال أعمال الرحمة والعطاء.

FAQ ❓

  • س: ما هو الفرق بين الجسد والروح؟
    ج: الجسد هو الجزء المادي من الإنسان، وهو فانٍ وقابل للموت. الروح هي الجزء غير المادي، وهي خالدة وغير قابلة للفناء.
  • س: كيف يمكنني الاستعداد للموت؟
    ج: من خلال التوبة، الصلاة، والعيش حياة القداسة. تذكر أن الموت هو مجرد انتقال إلى حياة أفضل في حضرة الله.
  • س: ما هو الرجاء المسيحي في القيامة؟
    ج: الرجاء المسيحي هو أننا سنقوم من الأموات في اليوم الأخير، وسنحصل على أجساد ممجدة غير قابلة للموت، وسنعيش إلى الأبد مع الله.
  • س: كيف أواجه الخوف من الموت؟
    ج: من خلال التأمل في محبة الله، والتركيز على الرجاء المسيحي في القيامة، والثقة في أن الله سيهتم بك في كل الظروف.

الخلاصة: الإنسان بين التراب والخلود

في الختام، يظهر لنا أن القول بأن “الله صنع الإنسان غير مائت” (حك 2: 23) لا يتعارض مع سفر التكوين، بل يكمله ويوضحه. الإنسان مخلوق من تراب، وهذا التراب يعود إلى الأرض، ولكن الإنسان أيضًا يحمل نفخة من الله، روحًا خالدة لا تفنى. الخطية أدخلت الموت والفساد، ولكن المسيح يسوع جاء ليفدينا ويعيدنا إلى دعوتنا الأصلية: الحياة الأبدية في شركة مع الله. لذا، فلنسعَ دائمًا إلى النمو الروحي والعيش حياة القداسة، واثقين في وعد الله بالقيامة والحياة الأبدية. هذه هي نظرة لاهوتية أرثوذكسية حقيقية.

Tags

لاهوت, أرثوذكسية, سفر التكوين, سفر الحكمة, الخلود, عدم الفناء, القيامة, آباء الكنيسة, الروح, الجسد, الموت, الخطية

Meta Description

هل تتعارض فكرة أن الله خلق الإنسان غير مائت مع سفر التكوين؟ تحليل لاهوتي أرثوذكسي قبطي يوضح أن الإنسان خُلق لعدم الفناء، وأن الموت نتيجة للخطية وليس جزءًا أصيلاً من طبيعته.

من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *