هل قسوة الله على شعبه تتنافى مع رحمته؟ نظرة لاهوتية أرثوذكسية

ملخص تنفيذي

يتساءل الكثيرون: هل قسوة الله الظاهرة على شعبه، كما نرى في مواقف مثل تلك المذكورة في إرميا 15: 3-4، تتعارض مع رحمته اللامتناهية؟ هذه المقالة، من منظور لاهوتي قبطي أرثوذكسي، تستكشف هذا السؤال العميق. سنفحص سياق هذه الآيات، ونحلل مفهوم القضاء الإلهي في ضوء محبة الله الأبدية. سندرس أيضاً كيف أن التأديب الإلهي، على الرغم من ظاهره القاسي، هو في جوهره تعبير عن رحمة الله، هدفه تطهير شعبه وإعادته إلى الطريق القويم. سنستعين بأقوال آباء الكنيسة، ونربط هذا الموضوع بتعاليم الكتاب المقدس الأخرى، وصولاً إلى تقديم رؤية شاملة تبرز انسجام قضاء الله مع رحمته. فهم رحمة الله وسط قسوته الظاهرة هو مفتاح فهم علاقتنا بالله. بالإضافة إلى ذلك، نختتم بتطبيقات عملية لحياتنا اليومية، مؤكدين على أن الثقة في الله، حتى في أوقات الصعاب، هي جوهر الإيمان المسيحي.

مقدمة

الكتاب المقدس، بثرائه وتعقيده، يقدم لنا صورة لله تجمع بين العدل والرحمة، القوة والوداعة. لكن في بعض الأحيان، تبدو هذه الصفات متعارضة، خاصة عندما نقرأ عن الأحكام القاسية التي حلّت بشعب الله. هل يمكننا حقاً أن نفهم كيف تتفق القسوة الظاهرة مع الرحمة الإلهية؟ هذه المقالة تسعى للإجابة على هذا السؤال من خلال منظور أرثوذكسي قبطي، مستنيرة بكلمة الله وتعليم الآباء.

قسوة الله ورحمته: نظرة إلى إرميا 15: 3-4

دعونا أولاً نتأمل في إرميا 15: 3-4 (Smith & Van Dyke): “وَأُوَكِّلُ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ، يَقُولُ الرَّبُّ: اَلسَّيْفَ لِيَقْتُلَ، وَالْكِلاَبَ لِتَسْحَبَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الأَرْضِ لِتَأْكُلَ وَتُهْلِكَ. وَأَجْعَلُهُمْ قَلَقاً لِكُلِّ مَمَالِكِ الأَرْضِ مِنْ أَجْلِ مَنَسَّى بْنِ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، لأَجْلِ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ.” هذا النص يصور قسوة شديدة، لكن هل هو حقاً تعبير عن غضب أعمى، أم أنه جزء من خطة إلهية أوسع؟

  • السياق التاريخي: يجب أن نفهم أن هذا الإعلان النبوي جاء في فترة عصيبة من تاريخ مملكة يهوذا. الفساد الأخلاقي والروحي كان منتشراً، والشعب ابتعد عن الله. منسى، الملك الشرير، كان رمزاً لهذا الانحدار.
  • القضاء الإلهي: القضاء الإلهي ليس انتقاماً أعمى، بل هو رد فعل طبيعي على الخطية. كما أن النار تحرق، هكذا الخطية تدمر. القضاء هو دعوة للتوبة والعودة إلى الله.
  • الرحمة المخفية: حتى في هذا القضاء، تكمن الرحمة. الله يريد أن يصحح شعبه، لا أن يدمره. التأديب هو وسيلة لإيقاظ الضمائر وإعادة الناس إلى رشدهم.
  • هدف التأديب: التأديب الإلهي يهدف إلى تطهير وتقويم وإصلاح. إنه ليس عقاباً للانتقام، بل هو فرصة للنمو الروحي والاقتراب من الله.

نظرة الآباء إلى القسوة والرحمة

آباء الكنيسة، مستنيرين بالروح القدس، قدموا لنا رؤى عميقة حول هذه القضية. إليكم بعض الأمثلة:

القديس أثناسيوس الرسولي يقول: “Ὁ γὰρ Κύριος, ὃν ἀγαπᾷ παιδεύει, μαστιγοῖ δὲ πάντα υἱὸν ὃν παραδέχεται” (Hebrews 12:6) – “For the Lord disciplines the one he loves, and chastises every son whom he receives.” (St. Athanasius, *Contra Gentes*, 36). وتعني بالعربية: “لأن الرب الذي يحبه يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله.” هذه العبارة توضح أن التأديب هو علامة على محبة الله، وليس علامة على غضبه.

القديس يوحنا الذهبي الفم يعلق قائلاً: “οὐ γὰρ ἐπὶ τιμωρίᾳ τὰ γινόμενα, ἀλλ’ ἐπὶ σωτηρίᾳ τῇ ἡμετέρᾳ” (John Chrysostom, *Homilies on Hebrews*, Homily 26, 3). وتعني بالعربية: “الأمور التي تحدث ليست للعقاب، بل لخلاصنا.”

هل يمكن أن تتصالح الرحمة والقسوة؟

الجواب نعم، يمكنهما ذلك، بل يجب عليهما ذلك. الرحمة بدون عدالة تصبح تساهلاً، والعدالة بدون رحمة تصبح قسوة. الله يجمع بينهما في توازن كامل. كما يقول المزمور (85: 10): “الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. اَلْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَزَمَا.”

  • التوبة كمفتاح: التوبة هي المفتاح الذي يفتح باب الرحمة. عندما يتوب الإنسان، يغفر الله له خطاياه ويمحو آثامه.
  • المسيح كمثال: المسيح هو المثال الأسمى لرحمة الله. بموته على الصليب، حمل عنا عقاب خطايانا، وأظهر لنا محبته اللامتناهية.
  • الصليب كمقياس: الصليب هو المقياس الذي نقيس به رحمة الله. فيه نرى العدالة والرحمة يلتقيان في عمل واحد.
  • الغفران كهدف: الغفران هو الهدف النهائي لرحمة الله. الله يريد أن يغفر لنا خطايانا وأن يعيدنا إلى شركته.

أسئلة متكررة ❓

هنا بعض الأسئلة الشائعة التي قد تراود الأذهان، مع إجابات مفصلة:

  • س: هل الله قاسي حقاً؟
    ج: لا، الله ليس قاسياً. “قسوته” الظاهرة هي في الواقع تعبير عن عدله ومحبته، تهدف إلى تصحيحنا وإعادتنا إليه. إنه كالأب الذي يؤدب ابنه لخيره.
  • س: كيف يمكنني أن أثق بالله في أوقات الصعاب؟
    ج: الثقة بالله في أوقات الصعاب تتطلب إيماناً عميقاً بأن الله يعمل لخيرنا، حتى عندما لا نفهم خطته. تذكر أن الله وعد بأنه لن يتركنا ولن يتخلى عنا (عبرانيين 13: 5).
  • س: هل يمكنني أن أغضب من الله؟
    ج: نعم، من الطبيعي أن نشعر بالغضب أو الإحباط في أوقات الصعاب، ولكن من المهم أن نعبر عن هذه المشاعر لله في الصلاة، وأن نطلب منه أن يكشف لنا عن حكمته ورحمته.
  • س: ما هي العلامات التي تدل على أن الله يؤدبني؟
    ج: التأديب الإلهي قد يأتي في صورة تجارب أو صعوبات، ولكن أيضاً في صورة توبيخ الضمير أو كلمات التشجيع من الآخرين. الأهم هو أن نكون منفتحين على سماع صوت الله في حياتنا.

الخلاصة

إن فهم العلاقة بين قسوة الله ورحمته هو تحدٍ روحي، لكنه ضروري لنمونا في الإيمان. من خلال دراسة الكتاب المقدس، والتعمق في أقوال الآباء، والتأمل في حياة المسيح، يمكننا أن نرى أن قضاء الله ورحمته ليسا متعارضين، بل متكاملين. فهم رحمة الله وسط قسوته الظاهرة يسمح لنا بالثقة في أن الله يعمل دائماً لخيرنا، حتى في أصعب الظروف. ليكن إيماننا ثابتاً، وصلاتنا مستمرة، وثقتنا في الله لا تتزعزع. تذكر أن الله يحبك بمحبة أبدية، وأنه يريد أن يكون لك الأفضل.

Tags

رحمة الله, قسوة الله, إرميا, التأديب الإلهي, لاهوت أرثوذكسي, آباء الكنيسة, التوبة, الغفران, العدل الإلهي, الإيمان المسيحي

Meta Description

هل قسوة الله على شعبه تتعارض مع رحمته؟ استكشف هذا السؤال العميق من منظور لاهوتي أرثوذكسي، وفهم كيف تتكامل الرحمة مع القضاء الإلهي في الكتاب المقدس وحياة المسيحي. فهم رحمة الله وسط قسوته الظاهرة.

من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *