هل الدعاء على الأمم المحيطة (باروخ 4: 31–35) يتناقض مع وصية محبة الأعداء؟ نظرة أرثوذكسية قبطية

ملخص تنفيذي

تواجهنا في سفر باروخ (4: 31-35) صلاة تبدو للوهلة الأولى متعارضة مع وصية محبة الأعداء التي علمنا إياها السيد المسيح. هذا البحث العميق يسعى إلى استكشاف هذه الآية في سياقها التاريخي، اللاهوتي، والروحي الأرثوذكسي القبطي. سنقوم بتحليل دقيق للغة النص، ومقارنته بتعاليم الكتاب المقدس الأخرى، وفهم الموقف الروحي الذي أدى إلى هذه الصلاة. سنستعرض أقوال الآباء القديسين وتفسيراتهم لهذا النص، مع التركيز على أن الصلاة من أجل العدالة الإلهية لا تتعارض بالضرورة مع محبة الأعداء، بل هي تعبير عن الغيرة على مجد الله ورغبته في خلاص الجميع. في النهاية، نقدم إرشادات عملية لكيفية تطبيق وصية محبة الأعداء في حياتنا اليومية، مع الحفاظ على غيرتنا على الحق والعدالة الإلهية. إن فهمنا الصحيح لهذا النص يساهم في تعميق فهمنا للإيمان المسيحي الأرثوذكسي ويدعونا إلى حياة روحية متوازنة ومليئة بالمحبة الحقيقية. فهم هل الدعاء على الأمم المحيطة يتناقض مع محبة الأعداء يتطلب نظرة شاملة.

تثير بعض نصوص الكتاب المقدس، وخاصة في العهد القديم والأسفار القانونية الثانية، تساؤلات حول مدى انسجامها مع وصية محبة الأعداء التي هي جوهر تعاليم المسيح. من بين هذه النصوص، نجد صلاة في سفر باروخ (4: 31-35) تبدو وكأنها دعوة للانتقام من الأمم المحيطة بإسرائيل. هل هذه الصلاة تتناقض فعلاً مع وصية المحبة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا البحث المستفيض.

سفر باروخ 4: 31-35 في سياقه التاريخي والجغرافي

لفهم هذه الآية، من الضروري وضعها في سياقها التاريخي والجغرافي.

  • السياق التاريخي: كُتب سفر باروخ خلال فترة السبي البابلي، وهي فترة عصيبة مرّ بها الشعب اليهودي، حيث عانى من الاضطهاد والظلم والبعد عن أرضه وعبادته. كانت هذه الفترة مليئة بالحزن واليأس، ولكنها أيضاً كانت فترة توبة ورجوع إلى الله.
  • السياق الجغرافي: كانت الأمم المحيطة بإسرائيل تمارس ديانات وثنية فاسدة، وكانت تمارس طقوسًا شريرة مثل تقديم الأطفال كذبائح للأوثان. كانت هذه الأمم تمثل تهديدًا روحيًا وأخلاقيًا للشعب اليهودي.
  • تحليل النص: “يا أورشليم، انظري نحو الشرق وتأملي الفرح الآتي عليك من عند الله. هوذا بنوك آتون إليك، الذين تفرّقوا، آتون مجتمعين من المشرق إلى المغرب بأمر القدّوس، فرحين بمجد الله. اخلعي، يا أورشليم، ثوب حزنك وشقاءك، والْبَسي بهاء المجد الذي من عند الله إلى الأبد. اعتَجِري تاج الحقّ الذي من عند الله. فإنّ الله سيظهر جلالك لكلّ ما تحت السماء. لأنّ اسمك سيُدعى من عند الله إلى الأبد: سلام الحقّ، ومجد العبادة. قومي، يا أورشليم، وقفي على العلاء وانظري نحو الشرق. هوذا بنوك مجتمعون من مغرب الشمس إلى مشرقها بكلمة القدّوس، مبتهجين بذكر الله” (باروخ 4: 31-35 – ترجمة فان دايك والسلطاني).

الدعاء على الأعداء في الكتاب المقدس: بين العدالة والمحبة

إن فكرة الدعاء على الأعداء موجودة في الكتاب المقدس، خاصة في المزامير. ولكن، يجب أن نفهم هذه الصلوات في ضوء مفهوم العدالة الإلهية.

  • العدالة الإلهية: الله عادل، وهو لا يرضى بالظلم والشر. الدعاء على الأشرار هو دعوة إلى الله ليقيم العدل وينتقم للمظلومين.
  • محبة الأعداء: وصية محبة الأعداء هي جوهر تعاليم المسيح. المحبة لا تعني التساهل مع الشر، بل تعني الرغبة في هداية الأشرار وخلاصهم.
  • الموازنة بين العدالة والمحبة: كيف نوازن بين الدعاء على الأشرار ومحبة الأعداء؟ الجواب يكمن في أن دعائنا يجب أن يكون بدافع الغيرة على مجد الله والرغبة في خلاص الجميع، وليس بدافع الانتقام الشخصي.

أقوال الآباء القديسين حول محبة الأعداء

الآباء القديسون قدموا لنا تفسيرات قيمة حول وصية محبة الأعداء.

  • القديس أغسطينوس: “أحبوا أعداءكم حتى تهلك الخطية فيهم، وتخلصوا أنتم من شرهم.” (Diligo inimicos tuos, ut pereat iniquitas in illis, et libereris tu ab iniquitate eorum. – Augustine, *Sermo* 56, 9). الترجمة العربية: “أحبوا أعداءكم حتى يهلك الإثم فيهم، وتتحرروا أنتم من إثمهم.”
  • القديس يوحنا الذهبي الفم: “لا يوجد شيء أكثر قوة من المحبة. فالمحبة تجعل الأعداء أصدقاء، وتجعل الغرباء أقرباء.” (Ὁ γὰρ ἔρως πάντων ἐστὶν ἰσχυρότερος· καὶ ποιεῖ τοὺς ἐχθροὺς φίλους, καὶ τοὺς ἀλλοτρίους οἰκείους. – John Chrysostom, *Homily on Romans* 11). الترجمة العربية: “فالمحبة هي أقوى من كل شيء، وتجعل الأعداء أصدقاء، والغرباء أهلًا.”
  • القديس مقاريوس الكبير: “الصلاة من أجل الأعداء هي علامة النضج الروحي.” (Prayer for enemies is a sign of spiritual maturity). الصلاة من أجل الأعداء هي علامة على النضج الروحي.

تطبيق وصية محبة الأعداء في حياتنا اليومية

كيف نطبق وصية محبة الأعداء في حياتنا اليومية؟

  • الصلاة من أجل الأعداء: صلّ من أجل الذين يسيئون إليك، واطلب من الله أن يهديهم ويغير قلوبهم.
  • المسامحة: سامح الذين أخطأوا إليك، ولا تحمل في قلبك أي ضغينة أو كراهية.
  • عمل الخير: افعل الخير للذين يكرهونك، وأحسن إلى الذين يسيئون إليك.
  • عدم الانتقام: لا تنتقم لنفسك، بل اترك الأمر لله ليقيم العدل في وقته.

FAQ ❓

  • س: هل يجوز أن أدعو على الظالمين؟
    ج: يجوز أن تدعو الله أن يقيم العدل وينصر المظلومين، ولكن يجب أن يكون دعاؤك بدافع الغيرة على مجد الله والرغبة في خلاص الجميع، وليس بدافع الانتقام الشخصي.
  • س: كيف أسامح شخصًا أساء إليّ كثيرًا؟
    ج: المسامحة هي عملية صعبة، ولكنها ضرورية للسلام الداخلي والنمو الروحي. اطلب معونة الله، وحاول أن تفهم دوافع الشخص الذي أساء إليك، وتذكر أن المسيح سامح الذين صلبوه.
  • س: هل محبة الأعداء تعني التساهل مع الشر؟
    ج: لا، محبة الأعداء لا تعني التساهل مع الشر، بل تعني الرغبة في هداية الأشرار وخلاصهم. يجب أن ندافع عن الحق ونقاوم الشر، ولكن يجب أن نفعل ذلك بمحبة وحكمة.

الخلاصة

إن فهمنا الصحيح لصلوات الدعاء على الأمم المحيطة كما وردت في سفر باروخ لا يتناقض مع وصية محبة الأعداء. بل هو تعبير عن الغيرة على مجد الله والرغبة في إقامة العدل. يجب أن نمارس المحبة الحقيقية، التي لا تتساهل مع الشر، ولكنها تسعى إلى هداية الأشرار وخلاصهم. وهذا يتطلب منا صلاة دائمة من أجلهم، ومسامحة للذين أخطأوا إلينا، وعمل الخير للذين يكرهوننا. بهذا نكون حقًا تلاميذ للمسيح، الذين يحبون حتى أعداءهم. إن التوفيق بين هل الدعاء على الأمم المحيطة يتناقض مع محبة الأعداء يظهر جمال التعاليم المسيحية. لنحيا بمحبة وسلام في كل وقت.

Tags

الكتاب المقدس, باروخ, محبة الأعداء, الدعاء على الأعداء, العدالة الإلهية, الآباء القديسون, اللاهوت الأرثوذكسي, المسيحية القبطية, الغيرة على الله, الخلاص, التوبة

Meta Description

هل الدعاء على الأمم المحيطة (باروخ 4: 31–35) يتناقض مع وصية محبة الأعداء؟ استكشف هذا السؤال في ضوء الكتاب المقدس، أقوال الآباء، واللاهوت الأرثوذكسي القبطي.

من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *