هل شريعة التثنية دعوة للعنف ضد الأمم؟ نظرة لاهوتية قبطية أرثوذكسية
ملخص تنفيذي
تُثار تساؤلات عديدة حول العهد القديم، وخاصة سفر التثنية، وهل يحرض على العنف ضد الأمم الأخرى؟ هذا البحث، بمنظور لاهوتي قبطي أرثوذكسي، يسعى لتوضيح هذا الأمر. لا شك أن نصوصًا معينة تبدو ظاهريًا عنيفة، لكن فهمها العميق ضمن السياق التاريخي والاجتمافي والروحي، بالإضافة إلى مقارنتها بتعاليم العهد الجديد، يغير الصورة تمامًا. هدفنا ليس تبرير العنف، بل فهم مقاصد الله من خلال هذه النصوص، وكيف يمكننا تطبيقها روحيًا في حياتنا اليومية. دراسة هذه النصوص بعين المحبة والسلام، مع الاستعانة بتفاسير الآباء القديسين، تكشف عن رسالة رحمة وعدل تهدف إلى خلاص الجميع، بمن فيهم الأمم. سنستعرض النصوص المثيرة للجدل، ونحلل أبعادها اللغوية والتاريخية، ونقدم تفسيرًا لاهوتيًا قبطيًا أصيلاً، مؤكدين أن شريعة التثنية، في جوهرها، ليست دعوة للعنف، بل هي دعوة للعدل والقداسة. هل شريعة التثنية دعوة للعنف ضد الأمم؟ هذا السؤال سيجد إجابته هنا.
مقدمة: غالبًا ما يثير العهد القديم، وخاصة سفر التثنية، جدلاً واسعًا حول تصويره للعلاقة بين بني إسرائيل والأمم الأخرى. فهل هذه النصوص تدعو إلى العنف والإبادة، أم أن هناك فهمًا أعمق وأكثر دقة؟ هذا ما سنحاول استكشافه.
السياق التاريخي والجغرافي لسفر التثنية ✨
لفهم سفر التثنية، يجب أن نضعه في سياقه التاريخي والجغرافي. كتب السفر في نهاية رحلة بني إسرائيل في البرية، قبل دخولهم أرض الميعاد. كانت الأمم التي سكنت هذه الأرض تمارس عبادات وثنية بشعة، تضمنت تقديم الأطفال كذبائح بشرية. كانت هذه الممارسات تهدد بقاء بني إسرائيل الروحي والأخلاقي.
- الموقع: أرض الموعد كانت منطقة صراع بين الإمبراطوريات الكبرى في ذلك الوقت.
- التاريخ: فترة القضاة كانت فترة اضطرابات وعدم استقرار سياسي واجتماعي.
- البيئة: كانت البيئة الصحراوية تحد من الموارد وتزيد من حدة الصراعات.
- الثقافة: تميزت الأمم المجاورة بانتشار الوثنية والممارسات اللاأخلاقية.
تحليل النصوص المثيرة للجدل 📖
هناك العديد من النصوص في سفر التثنية التي تبدو ظاهريًا عنيفة، مثل الأمر بإبادة بعض الأمم. لكن عند التدقيق في هذه النصوص، نجد أنها غالبًا ما تكون مشروطة بالتوبة والرجوع إلى الله. كما أن هذه الأوامر كانت موجهة إلى قادة الجيش، وليست دعوة عامة للعنف.
مثال: “حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا، اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ. فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. وَمَتَى دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ، فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ” (تثنية 20: 10-14 Smith & Van Dyke).
هذا النص، للوهلة الأولى، يبدو عنيفًا، لكنه يوضح أن الحرب لم تكن الخيار الأول، بل كان هناك دعوة للصلح. كما أن الغرض من الحرب لم يكن الإبادة، بل إخضاع الأمم وإبعادهم عن عباداتهم الوثنية.
التفسير اللاهوتي القبطي الأرثوذكسي 🕊️
من وجهة نظر لاهوتية قبطية أرثوذكسية، يجب أن نفهم هذه النصوص في ضوء الوحي الكتابي بأكمله، وخاصة العهد الجديد. يشدد العهد الجديد على المحبة والتسامح والسلام. يقول السيد المسيح: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (متى 5: 44 Smith & Van Dyke).
الآباء القديسون فهموا العهد القديم على أنه رمز وإعداد للعهد الجديد. يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
“οὐ γὰρ δὴ πᾶν τὸ κατὰ τὴν Παλαιὰν Γραφὴν ἱστορούμενον δογματίζει ἡ Ἐκκλησία, ἀλλὰ τὰ μὲν ὡς ἀλληγορουμένα, τὰ δὲ ὡς τύπους ἐπιγινομένων, τὰ δὲ ὡς συμβεβηκότα χρησίμως μνημονεύει πρὸς διόρθωσιν καὶ ὠφέλειαν τῶν ἀκουόντων.”
(Contra Gentes 41. PG 25, 80.)
(Translation: “For the Church does not dogmatize about everything recorded in the Old Testament, but remembers some things as allegories, others as types of what is to come, and others as events that happened usefully for the correction and benefit of those who hear.” Arabic: “فالكنيسة لا تجعل كل ما هو مدون في العهد القديم عقيدة، بل تتذكر بعض الأشياء كرموز، والبعض الآخر كأنماط لما سيأتي، والبعض الآخر كأحداث حدثت بشكل مفيد لتصحيح وإفادة السامعين.”)
هذا يعني أننا يجب أن نفهم النصوص التي تبدو عنيفة في العهد القديم على أنها رموز وأمثلة، وليست أوامر حرفية يجب تطبيقها اليوم.
العنف الروحي والجهاد الداخلي 💡
بدلاً من التركيز على العنف الجسدي، يمكننا أن نفهم هذه النصوص على أنها دعوة إلى العنف الروحي، أي الجهاد ضد الخطية والشر داخلنا. يقول القديس بولس الرسول: “لأَنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أفسس 6: 12 Smith & Van Dyke).
- مقاومة الخطية: الجهاد ضد شهوات الجسد وأفكار الشر.
- محاربة الكبرياء: التواضع وإنكار الذات.
- التغلب على الغضب: ضبط النفس والتحلي بالصبر.
- هزيمة اليأس: الثقة في رحمة الله وقدرته على تغيير حياتنا.
- التغلب على الخوف: طلب معونة الله في مواجهة تحديات الحياة.
العلاقة بين العهدين القديم والجديد 📜
العهد الجديد يكمل العهد القديم، ولا ينفيه. العهد القديم هو أساس العهد الجديد، والعهد الجديد هو تحقيق العهد القديم. المحبة هي جوهر شريعة الله في كلا العهدين. يقول السيد المسيح: “تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ” (متى 22: 37-40 Smith & Van Dyke).
FAQ ❓
س: هل يعني هذا أن العهد القديم لا قيمة له؟
ج: بالتأكيد لا! العهد القديم هو كلمة الله الموحى بها، وهو ضروري لفهم خطة الله للخلاص. لكن يجب أن نقرأه في ضوء العهد الجديد، وأن نركز على الرسالة الروحية والأخلاقية للنصوص.
س: كيف يمكننا تطبيق تعاليم العهد القديم في حياتنا اليومية؟
ج: يمكننا تطبيق تعاليم العهد القديم من خلال التركيز على المحبة والعدل والقداسة. يمكننا أيضًا أن نتعلم من أخطاء بني إسرائيل، وأن نتجنب الوقوع في نفس الأخطاء. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نرى في شخصيات العهد القديم أمثلة إيجابية وسلبية، وأن نسعى إلى الاقتداء بالأمثلة الإيجابية.
س: ما هي أهمية تفسير الآباء القديسين للكتاب المقدس؟
ج: الآباء القديسون هم شهود على الإيمان المسيحي الأصيل. لقد عاشوا الكتاب المقدس وعاشوه، وفهموه في ضوء التقليد الرسولي. تفسيراتهم تساعدنا على فهم الكتاب المقدس بشكل أعمق وأكثر دقة، وتحمينا من التحريفات والتفسيرات الخاطئة.
الخلاصة
في الختام، لا يمكن القول بأن هل شريعة التثنية دعوة للعنف ضد الأمم؟ بل هي دعوة إلى العدل والقداسة، وإلى حماية بني إسرائيل من التأثيرات الوثنية. يجب أن نفهم هذه النصوص في سياقها التاريخي والاجتماعي، وأن نراها في ضوء الوحي الكتابي بأكمله، وخاصة العهد الجديد. العنف في العهد القديم غالبًا ما يكون رمزيًا، ويدعو إلى الجهاد الروحي ضد الخطية والشر داخلنا. علينا أن نركز على المحبة والتسامح والسلام، وأن نسعى إلى تطبيق هذه الفضائل في حياتنا اليومية. فبالإيمان العامل بالمحبة، نستطيع أن نعيش حياة مرضية لله، وأن نكون شهودًا للمسيح في العالم.
Tags
التثنية, العنف, العهد القديم, لاهوت قبطي, تفسير الكتاب المقدس, آباء الكنيسة, الجهاد الروحي, المحبة, السلام, العدل
Meta Description
هل شريعة التثنية دعوة للعنف ضد الأمم؟ بحث لاهوتي قبطي أرثوذكسي يوضح السياق التاريخي والروحي للنصوص المثيرة للجدل، ويقدم تفسيرًا روحيًا أصيلًا.